إنّ الثبات على النيّة أصعب شيء على النفس لأنّها متذبذبة بالنسبة إلى النيّة ذبذبة غريبة، ومثاله التذبذب الذي يحصل لنا في الصلاة. فربما تبدلت نيّة بعضنا في الصلاة الواحدة أكثر من عشرين مرة! فقد يبدأ الشخص صلاته بنيّة تنسجم وقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
«إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك»، فيبدأ تكبيرته بهذه النيّة، ولكن بمجرّد أن يُتمّ التكبير تهجم على ذهنه الأفكار، فإذا كان خطيباً مثلاً فكّر في المجلس الذي ينتظره، وإذا كان تاجراً فكّر في تجارته وهكذا. فهل هذا هو المراد من التكبير؟! هل كبّر الخطيب ليبدأ الإعداد لمجلسه مثلاً؟ إنّ الإعداد للمجلس أمر حسن ولا بأس به، ولكن ليس أثناء الصلاة.
إنّ مسألة الثبات على النيّة تعتبر بحدّ ذاتها مسألة صعبة جدّاً. فإنّ الإنسان مهما أوتي من توفيق وإخلاص حتى لو استمرّ عليه سبعين سنة فإنّه لا يؤمَن من تزلزل النيّة في نفسه، لأنّ الإنسان ـ كما هو معلوم ـ مكبّل ومشدود بغرائز وأهواء مختلفة.
قال تعالى: «مُذَبْذَبينَ بَيْنَ ذَلكَ لاَ إلَى هَؤلاَء وَلاَ إلى هَؤلاَء».
ولذلك يأمرنا الله تعالى إكمال النيّة وإبعاد النقص فيها، ويأمرنا کذلك صيانتها، فهي معرّضة للتأثيرات المختلفة، الأمر الذي يجدر بنا بعد انعقاد نوايانا في نفوسنا أن نطلب من الله تعالى توفيرها وصيانتها من أخطار الشيطان والشهوات وتأثيراتها المختلفة.
النيّة إطار العمل ومانحة لونه
والنيّة إطار العمل، فالعمل لا لون له، مثل الماء الصافي الذي لم تخالطه أجزاء ترابية أو شوائب أخرى. فلو كان الماء صافياً جداً وصُبّ في إناء زجاجي شفّاف، حينها لا يتمكّن الإنسان أن يبصر حدّ الماء من بعيد بسهولة، خصوصاً إذا كان ساكناً لا تموّج فيه، وذلك لأنّ الماء في الأصل لا لون فيه وإنّما يكتسب لون الإناء الذي يوضع فيه أو لون الشيء الذي يمتزج معه، أو غير ذلك.
فالعمل كالماء بصفائه، وإنّ النيّة هي ذلك الشيء الذي يمنحه لونه.
• مثال شخص شتمك، ولكنّك حلمت عليه، فالحلم شيء صعب وجميل في نفس الوقت، ولكن الأصعب من الحلم تحسينه بنية لوجه الله تعالى، أمّا إذا كان الدافع لاستعمالك الحلم أن تقوّي مكانتك بين الأصدقاء أو يقال عنك حليم، أو تعلن للناس من خلاله أنك قويّ الإرادة، فهذا يختلف عمّن يحلم لعلمه أنّ الله يحبّ الحلم ويدعو إليه، ولكلٍّ حساب.
لا عمل إلا بنيّة
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إنما الأعمال بالنيات».
وتوضيحه بمثال:
لو أنّ شخصاً ألّف كتاباً ضخماً وأتعب نفسه في تأليفه ثمّ قدّمه لعالِم والتمسه أن يكتب له تقريظاً، ولكن العالم اكتشف بعد مطالعته الكتاب أنّه لا قيمة له من الناحية العلمية والموضوعية واعتذر لصاحبه عن كتابة التقريظ قائلاً: إنّ هذا ليس بكتاب أصلاً! فماذا يُفهم؟ هل نفى الواقع المادّي الملموس للكتاب ککتاب مؤلَّف من أوراق كتبت عليها عبارات وخطوط، أم نفى توفّر الكتاب على الشروط التي يستحقّ بها أن يسمّى كتاباً كما ينبغي.
إذاً ما كتبه الكاتب في المثال هو كتاب، وفي الوقت نفسه ليس بكتاب. هو كتاب خارجاً وحقيقة، ولكنّه ليس كتاباً اعتباراً، أي وفق الشروط التي يعتبرها أهل العلم.
إذا اتّضح هذا المثال نقول: هكذا يجب أن نفهم مراد الأحاديث الشريفة التي تقول إنّه لا عمل إلا بنيّة.
والخوف كلّ الخوف أن يأتي اليوم الذي ينتشر فيه هذا اللاعمل. فلكلّ فرد منّا مئات الملايين من الأعمال في حياته، لأنّ العمل ليس منبراً أو تأليفاً أو تدريساً بل كلّ نظرة وكلّ نفحة، وكلّ تأمّل وتفكّر وكلّ لمسة وهمسة ولمزه وخلسة، وكلّ استماع ونجوى وتعبير، ولابدّ أن تحصى هذه الأعمال كلّها عند الله تعالى وتنشر يوم القيامة، ليکشف عن عدد هائل من اللاعمل بعدد مصادقي الأعمال المجرّدة عن النيّة الحسنة.
النيّة قبل العمل وحينه وبعده
يظهر من مضمون الأحاديث والروايات أنّ النيّة تؤثّر في العمل سواء كانت قبل العمل أو حينه أو بعده لا فرق، سوى أنّ فسادها بعد العمل يفسده دون أن يبطله. والفقهاء قد فصّلوا الأمر وقالوا: إنّ النيّة إذا كانت فاسدة حين العمل ـ أي كان العمل لغير الله كما لو كان رياءً مثلاً ـ فهذه النية الفاسدة تفسد العمل وتبطله، ولكنّها إن فسدت بعد العمل فهي لا تبطل العمل بل تفسده فقط. و لا يتناقض هذا الفهم مع مفهوم الروايات المتقدّمة فضلاً عن منطقوها بل هو فهم يفرّق بين البطلان الذي يعني لزوم إعادة العمل وبين الإفساد الذي يعني عدم القبول.
فلو أنّ شخصاً صدر منه الرياء أثناء الصلاة، فلا شكّ حينئذ بفساد الصلاة وبطلانها في الحالتين، الأمر الذي يستوجب الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت إن فاته.
مثال من واقع الحياة
واشتراط النيّة وصحّتها في قبول العمل من الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء في حياتهم العملية، والأمثلة ليست عزيزة في هذا المجال، فكثيرة هي الأمور التي قد يُتعب الإنسان نفسه عليها، ثمّ يفرّط بها ويتلفها بسهولة وربّما باندفاع لأنّه يرى أنّها كانت عديمة الفائدة، وإن شكلت كمّاً ضخماً في الواقع الخارجي.
هكذا يفعل الله مع أعمالنا الباطلة، يقول تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾، حقّاً ما آلمه من عذاب، ذلك عذاب اليوم الآخر الذي يهون عنده كلّ أنواع العذاب في دار الدنيا، لأنّ الإنسان المؤمن سيرتاح بالموت من عذاب الدنيا وهمومها، ولكن لا راحة من العذاب الأخروي لسواه، سيّان النفسي منه والجسدي.
إنّ المفتاح بيد الإنسان وإن لم يخلُ الأمر من صعوبة ولكنّه ممكن، غايته أنّه يتطلّب إرادة وتوكّلاً على الله تعالى، والنيّة تحسنّ العمل في كلّ حال، فهي تحسنّ الخطابة والتدريس والبذل والإطعام، وهي تحسنّ عمل المرجع والمؤلّف والمبلّغ وإمام الجماعة والقاضي، كما تحسنّ العمل في سائر المجالات.
لابدّ من النيّة والتوكّل معا
إنّ النيّة هي الأساس في العمل، وهي إطار العمل كما أسلفنا، والاختيار يبقى بيد الإنسان، ولكن بما أنّه مكبّل ومشدود إلى الأرض فهو بحاجة إلى تأييد ربّاني. نضرب لذلك مثلاً:
إنّ الذين يتسلّقون الجبال يمسكون بحبل أحد طرفيه مثبّت في أعلى الجبل، فالمتسلّق منهم وإن تراه يصعد بعزيمته وجهده وفكره وأعصابه إلاّ أنّه مع ذلك لابدّ له من وجود ذلك الحبل لأنّ أدنى زلّة منه قد تودي بحياته أو تهشّم عظامه، إذا ما هوى. فلا العزيمة وحدها كافية دون الحبل ولا الحبل وحده كاف دون العزيمة، لأنّ من لا عزيمة وقوّة له لا يستطيع التسلّق وإن كان هناك حبل، كما أنّ الإرادة والعزيمة غير كافيتين دون الحبل لأنّ الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر، وأنّ أدنى غفلة أو زلّة تنتهي بصاحبها إلى التحطّم والهلاك.
وهكذا الحال بالنسبة للنيّة ونجاحها، فإنّها تتطلب إرادة وعزيمة وتصميماً من العبد، وتوكّلاً منه على الله تعالى إلى جانب ذلك. فإنّ التوكّل وحده دون إرادة واختيار من العبد لا يكفي، كما أنّ اعتماد العبد على إرادته وحدها دون مدد من الله هو أيضاً غير مضمون النتائج.
وتلك الوسيلة التي تعين العبد على تسلّق درجات المعرفة والفلاح، هي النيّة والتوكّل على الله تعالى.
لنعمل على توفير النيّة
فلنتجاوز هذه العقبة الكئود ـ عقبة التذبذب في النية ـ ولنّحسنّ أعمالنا بنيّة خالصة مادمنا على الطريق، نؤمن بالله واليوم الآخر، ونؤدّي سائر الفروض والواجبات، وندرس وندرّس العلوم الدينية ونعظ الناس ويؤلّف بعضنا الكتب لهدايتهم أو لبيان معالم الدين، لأنّنا ـ مع الأسف ـ نرى أنّ بعض الناس بعيدون حتى عن أوليات الدين الحنيف، لذا يلزم أن نبذل جهداً متميّزاً في الوصول إلى أحسن النيّات. غاية الأمر أنّه يحتاج إلى تركيز وتصميم وتوسّل بالله تعالى واستشفاع بأهل البيت سلام الله عليهم. فإنّ العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد ـ كما أشار إليه الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم ـ وإن كان هذا أمراً صعب المنال ولكنّه ممكن.
بعد ساعات أو أيّام أو شهور أو سنين ـ كلٌّ حسب أجله ـ سننتقل إلى الدار الآخرة، حينها نتأسف لعدم استثمار حياتنا وأعمارنا في العمل بإخلاص، وأنّ عمدة همّنا كان منصبّاً في التظاهر بأعمالنا وأقاربنا.
صحيح أنّه ينبغي في بعض الموارد ـ أو يستحبّ بل قد يجب ـ أن يُظهر الإنسان نفسه.
ومثاله:
أن تكتب اسمك على الكتاب الذي تؤلّفه ليُعرف أنّه لك فيؤخذ بما فيه إن كنتَ ممن يوثق بكلامه. ولكن ليكن كتابة اسمك من أجل التوثيق لا لكي تري نفسك وتظهر ذاتك لأجل التفاخر وما أشبه.
وهذا الأمر يتطلّب انتباهاً مستمرّاً وتوكّلاً على الله تعالى، فربّ غفلة أدّت إلى سقوط مميت! كالذين يقودون سيّاراتهم في طرق ذات منعطفات ومزالق خطيرة تتطلب منهم انتباهاً ويقظة وحذراً لكي لا تؤدّي بهم الغفلة إلى خسارة أعمارهم أو البقاء معوقين طيلة حياتهم!
«إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك ولكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك»، فيبدأ تكبيرته بهذه النيّة، ولكن بمجرّد أن يُتمّ التكبير تهجم على ذهنه الأفكار، فإذا كان خطيباً مثلاً فكّر في المجلس الذي ينتظره، وإذا كان تاجراً فكّر في تجارته وهكذا. فهل هذا هو المراد من التكبير؟! هل كبّر الخطيب ليبدأ الإعداد لمجلسه مثلاً؟ إنّ الإعداد للمجلس أمر حسن ولا بأس به، ولكن ليس أثناء الصلاة.
إنّ مسألة الثبات على النيّة تعتبر بحدّ ذاتها مسألة صعبة جدّاً. فإنّ الإنسان مهما أوتي من توفيق وإخلاص حتى لو استمرّ عليه سبعين سنة فإنّه لا يؤمَن من تزلزل النيّة في نفسه، لأنّ الإنسان ـ كما هو معلوم ـ مكبّل ومشدود بغرائز وأهواء مختلفة.
قال تعالى: «مُذَبْذَبينَ بَيْنَ ذَلكَ لاَ إلَى هَؤلاَء وَلاَ إلى هَؤلاَء».
ولذلك يأمرنا الله تعالى إكمال النيّة وإبعاد النقص فيها، ويأمرنا کذلك صيانتها، فهي معرّضة للتأثيرات المختلفة، الأمر الذي يجدر بنا بعد انعقاد نوايانا في نفوسنا أن نطلب من الله تعالى توفيرها وصيانتها من أخطار الشيطان والشهوات وتأثيراتها المختلفة.
النيّة إطار العمل ومانحة لونه
والنيّة إطار العمل، فالعمل لا لون له، مثل الماء الصافي الذي لم تخالطه أجزاء ترابية أو شوائب أخرى. فلو كان الماء صافياً جداً وصُبّ في إناء زجاجي شفّاف، حينها لا يتمكّن الإنسان أن يبصر حدّ الماء من بعيد بسهولة، خصوصاً إذا كان ساكناً لا تموّج فيه، وذلك لأنّ الماء في الأصل لا لون فيه وإنّما يكتسب لون الإناء الذي يوضع فيه أو لون الشيء الذي يمتزج معه، أو غير ذلك.
فالعمل كالماء بصفائه، وإنّ النيّة هي ذلك الشيء الذي يمنحه لونه.
• مثال شخص شتمك، ولكنّك حلمت عليه، فالحلم شيء صعب وجميل في نفس الوقت، ولكن الأصعب من الحلم تحسينه بنية لوجه الله تعالى، أمّا إذا كان الدافع لاستعمالك الحلم أن تقوّي مكانتك بين الأصدقاء أو يقال عنك حليم، أو تعلن للناس من خلاله أنك قويّ الإرادة، فهذا يختلف عمّن يحلم لعلمه أنّ الله يحبّ الحلم ويدعو إليه، ولكلٍّ حساب.
لا عمل إلا بنيّة
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إنما الأعمال بالنيات».
وتوضيحه بمثال:
لو أنّ شخصاً ألّف كتاباً ضخماً وأتعب نفسه في تأليفه ثمّ قدّمه لعالِم والتمسه أن يكتب له تقريظاً، ولكن العالم اكتشف بعد مطالعته الكتاب أنّه لا قيمة له من الناحية العلمية والموضوعية واعتذر لصاحبه عن كتابة التقريظ قائلاً: إنّ هذا ليس بكتاب أصلاً! فماذا يُفهم؟ هل نفى الواقع المادّي الملموس للكتاب ککتاب مؤلَّف من أوراق كتبت عليها عبارات وخطوط، أم نفى توفّر الكتاب على الشروط التي يستحقّ بها أن يسمّى كتاباً كما ينبغي.
إذاً ما كتبه الكاتب في المثال هو كتاب، وفي الوقت نفسه ليس بكتاب. هو كتاب خارجاً وحقيقة، ولكنّه ليس كتاباً اعتباراً، أي وفق الشروط التي يعتبرها أهل العلم.
إذا اتّضح هذا المثال نقول: هكذا يجب أن نفهم مراد الأحاديث الشريفة التي تقول إنّه لا عمل إلا بنيّة.
والخوف كلّ الخوف أن يأتي اليوم الذي ينتشر فيه هذا اللاعمل. فلكلّ فرد منّا مئات الملايين من الأعمال في حياته، لأنّ العمل ليس منبراً أو تأليفاً أو تدريساً بل كلّ نظرة وكلّ نفحة، وكلّ تأمّل وتفكّر وكلّ لمسة وهمسة ولمزه وخلسة، وكلّ استماع ونجوى وتعبير، ولابدّ أن تحصى هذه الأعمال كلّها عند الله تعالى وتنشر يوم القيامة، ليکشف عن عدد هائل من اللاعمل بعدد مصادقي الأعمال المجرّدة عن النيّة الحسنة.
النيّة قبل العمل وحينه وبعده
يظهر من مضمون الأحاديث والروايات أنّ النيّة تؤثّر في العمل سواء كانت قبل العمل أو حينه أو بعده لا فرق، سوى أنّ فسادها بعد العمل يفسده دون أن يبطله. والفقهاء قد فصّلوا الأمر وقالوا: إنّ النيّة إذا كانت فاسدة حين العمل ـ أي كان العمل لغير الله كما لو كان رياءً مثلاً ـ فهذه النية الفاسدة تفسد العمل وتبطله، ولكنّها إن فسدت بعد العمل فهي لا تبطل العمل بل تفسده فقط. و لا يتناقض هذا الفهم مع مفهوم الروايات المتقدّمة فضلاً عن منطقوها بل هو فهم يفرّق بين البطلان الذي يعني لزوم إعادة العمل وبين الإفساد الذي يعني عدم القبول.
فلو أنّ شخصاً صدر منه الرياء أثناء الصلاة، فلا شكّ حينئذ بفساد الصلاة وبطلانها في الحالتين، الأمر الذي يستوجب الإعادة في الوقت، والقضاء خارج الوقت إن فاته.
مثال من واقع الحياة
واشتراط النيّة وصحّتها في قبول العمل من الأمور التي جرت عليها سيرة العقلاء في حياتهم العملية، والأمثلة ليست عزيزة في هذا المجال، فكثيرة هي الأمور التي قد يُتعب الإنسان نفسه عليها، ثمّ يفرّط بها ويتلفها بسهولة وربّما باندفاع لأنّه يرى أنّها كانت عديمة الفائدة، وإن شكلت كمّاً ضخماً في الواقع الخارجي.
هكذا يفعل الله مع أعمالنا الباطلة، يقول تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾، حقّاً ما آلمه من عذاب، ذلك عذاب اليوم الآخر الذي يهون عنده كلّ أنواع العذاب في دار الدنيا، لأنّ الإنسان المؤمن سيرتاح بالموت من عذاب الدنيا وهمومها، ولكن لا راحة من العذاب الأخروي لسواه، سيّان النفسي منه والجسدي.
إنّ المفتاح بيد الإنسان وإن لم يخلُ الأمر من صعوبة ولكنّه ممكن، غايته أنّه يتطلّب إرادة وتوكّلاً على الله تعالى، والنيّة تحسنّ العمل في كلّ حال، فهي تحسنّ الخطابة والتدريس والبذل والإطعام، وهي تحسنّ عمل المرجع والمؤلّف والمبلّغ وإمام الجماعة والقاضي، كما تحسنّ العمل في سائر المجالات.
لابدّ من النيّة والتوكّل معا
إنّ النيّة هي الأساس في العمل، وهي إطار العمل كما أسلفنا، والاختيار يبقى بيد الإنسان، ولكن بما أنّه مكبّل ومشدود إلى الأرض فهو بحاجة إلى تأييد ربّاني. نضرب لذلك مثلاً:
إنّ الذين يتسلّقون الجبال يمسكون بحبل أحد طرفيه مثبّت في أعلى الجبل، فالمتسلّق منهم وإن تراه يصعد بعزيمته وجهده وفكره وأعصابه إلاّ أنّه مع ذلك لابدّ له من وجود ذلك الحبل لأنّ أدنى زلّة منه قد تودي بحياته أو تهشّم عظامه، إذا ما هوى. فلا العزيمة وحدها كافية دون الحبل ولا الحبل وحده كاف دون العزيمة، لأنّ من لا عزيمة وقوّة له لا يستطيع التسلّق وإن كان هناك حبل، كما أنّ الإرادة والعزيمة غير كافيتين دون الحبل لأنّ الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر، وأنّ أدنى غفلة أو زلّة تنتهي بصاحبها إلى التحطّم والهلاك.
وهكذا الحال بالنسبة للنيّة ونجاحها، فإنّها تتطلب إرادة وعزيمة وتصميماً من العبد، وتوكّلاً منه على الله تعالى إلى جانب ذلك. فإنّ التوكّل وحده دون إرادة واختيار من العبد لا يكفي، كما أنّ اعتماد العبد على إرادته وحدها دون مدد من الله هو أيضاً غير مضمون النتائج.
وتلك الوسيلة التي تعين العبد على تسلّق درجات المعرفة والفلاح، هي النيّة والتوكّل على الله تعالى.
لنعمل على توفير النيّة
فلنتجاوز هذه العقبة الكئود ـ عقبة التذبذب في النية ـ ولنّحسنّ أعمالنا بنيّة خالصة مادمنا على الطريق، نؤمن بالله واليوم الآخر، ونؤدّي سائر الفروض والواجبات، وندرس وندرّس العلوم الدينية ونعظ الناس ويؤلّف بعضنا الكتب لهدايتهم أو لبيان معالم الدين، لأنّنا ـ مع الأسف ـ نرى أنّ بعض الناس بعيدون حتى عن أوليات الدين الحنيف، لذا يلزم أن نبذل جهداً متميّزاً في الوصول إلى أحسن النيّات. غاية الأمر أنّه يحتاج إلى تركيز وتصميم وتوسّل بالله تعالى واستشفاع بأهل البيت سلام الله عليهم. فإنّ العمل الخالص هو الذي لا تريد أن يمدحك عليه أحد ـ كما أشار إليه الأئمّة المعصومون سلام الله عليهم ـ وإن كان هذا أمراً صعب المنال ولكنّه ممكن.
بعد ساعات أو أيّام أو شهور أو سنين ـ كلٌّ حسب أجله ـ سننتقل إلى الدار الآخرة، حينها نتأسف لعدم استثمار حياتنا وأعمارنا في العمل بإخلاص، وأنّ عمدة همّنا كان منصبّاً في التظاهر بأعمالنا وأقاربنا.
صحيح أنّه ينبغي في بعض الموارد ـ أو يستحبّ بل قد يجب ـ أن يُظهر الإنسان نفسه.
ومثاله:
أن تكتب اسمك على الكتاب الذي تؤلّفه ليُعرف أنّه لك فيؤخذ بما فيه إن كنتَ ممن يوثق بكلامه. ولكن ليكن كتابة اسمك من أجل التوثيق لا لكي تري نفسك وتظهر ذاتك لأجل التفاخر وما أشبه.
وهذا الأمر يتطلّب انتباهاً مستمرّاً وتوكّلاً على الله تعالى، فربّ غفلة أدّت إلى سقوط مميت! كالذين يقودون سيّاراتهم في طرق ذات منعطفات ومزالق خطيرة تتطلب منهم انتباهاً ويقظة وحذراً لكي لا تؤدّي بهم الغفلة إلى خسارة أعمارهم أو البقاء معوقين طيلة حياتهم!