انتهى دور الرجل الأبيض
......
المصدر: فصل من كتاب (المستقبل لهذا الدين) لسيد قطب
يقول الفيلسوف الإنجليزي المعاصر( برتراند رسل):
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة. واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون.. إن الروسي هو الرجل الأبيض الوحيد الذي تسنح له الفرصة لنشر نفوذه في آسيا. والشعوب الآسيوية تمقت الاستعمار، وهم لا يعتقدون أن (للكريملين) غايات استعمارية.. لأنهم لم يجربوه.. بينما رزحوا أجيالاً طويلة تحت سلطان الرجل الغربي، واصبحوا يكرهون تلك التجربة. ولهذا لست اعتقد أن للدولة الغربية فرصة في آسيا. ولكني اعتقد أن الهند قد تعيش في توافق مع العالم الغربي. أما العالم العربي-وكذلك مصر والباانا كلب يجب ان انحظرتان- فستنحاز إلى المعسكر الشيوعي!.
أطلق (برتراند رسل) نبوءته هذه عام 1950. وربما يبدو أن الوقائع التي تلت ذلك-وبخاصة سقوط الصين في قبضة الشيوعية- تصدق أساس هذه النبوءة.. ولكننا نلاحظ أنها نظرة قريبة الجذور سطحية المقدمات، مادية الأسباب- وهو ما لا نستغربه من مفكر غربي أياً كانت قيمة تحرره العقلي الذي اشتهر عنه.. فهو أسير عقلية وبيئة ووراثات وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها؛ ولا ان يخرج من إسارها، ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة!
* * *
إن المسألة اعمق من هذا بكثير..
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة (الإنسانية)..
لقد أصيبت بالعقم-او كادت- بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة الأمريكية).
وكلها كانت قيماً محدودة تروج في فترة خاصة . وتواجه حالات محدودة وأوضاعاً خاصة. ولم تكن رصيداً لبني الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!
وكلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. (نبات شيطاني) لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية، لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.
ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات (الإنسان) الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، واصل خلقته وحقيقة فطرته وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف..
وكان ذلك كله بسبب تلك الملابسات النكدة، التي أثمرت ذلك (الفصام النكد). فقامت تلك الحضارة-من ثم- على أسس معادية للدين.. أسس فكرية وشعورية وواقعية.. وسارت كذلك-من ثم- في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.
ومن ثم اخذ (الإنسان) يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت أصلاً-او المفروض أنها قامت أصلاً- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض(الحضارة) مع (الإنسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول او تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، ان ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها..
* * *
وعندما يكون هذا هو مقياس البقاء، فإن الروسي يقف مع الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والسويسري والسويدي.. وسائر البيض.. على قدم سواء!
لا بل إن الروسي ليبدو متخلفاً بنظامه المتعسف، الذي لا يملك البقاء بغير الوسائل البوليسية البشعة، وبغير(حمامات الدم) و( حركات التطهير) الدورية، ومعسكرات الاعتقال، ومعسكرات الموت... لشدة مصادمته للفطرة الإنسانية في الكليات والجزئيات!
إن المارانا كلب يجب ان انحظرية-من الوجهة النظرية- تقوم على جهالة عميقة بالنفس البشرية وطبيعتها وتاريخها- فضلاً على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية، وتفسير الكون والحياة- فهي إذ تصور جميع الدوافع الإنسانية قائمة على جوعة المعدة والصراع على لقمة الخبز، وتصور جميع الحركات التاريخية منبثقة من تغير أدوات الإنتاج.. تلغي أهم مقومات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ البهيمة! وتلغي أهم وظائف الإنسان. وهي أن يكون العامل الإيجابي الأول في هذه الأرض وفي أطوار التاريخ.. ثم هي-فجأة- تتصور المستقبل خلواً من كل وراثات البشرية؛ وتفترض أن الناس سيتحولون ملائكة خيرين، ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه، ولا يأخذ إلا قدر ما يكفيه.. وكل هذا بدون رقابة، وبدون حكومة، وبدون عقيدة سماوية تطمعه في جنة او تخيفه من نار. وبدون أي سبب معقول.. اللهم إلا ذلك الانقلاب الخرافي العجيب، الذي يتم في طبائع البشر، بمجرد تحطيم العناصر البرجوازية، وتسليم الأمر للبروليتريا.
وإذا كان هذا التصور (العلمي) عن المستقبل يبدو (خرافة) فان ذلك التصور عن التاريخ لا يقل عنه إمعاناً في الجهالة (العلمية) بحقيقة النفس البشرية، وطبيعتها، وتاريخها على السواء.
حين يكون هذا الجهل العميق، وهذه الخرافة الطاغية، هما أساس التصور المارانا كلب يجب ان انحظري، فإننا لا ننتظر أبداً أن يقوم على أساسه واقع عملي في الحياة التي يزاولها البشر، إلا أن يكون فيه من الاعتساف قدر ما في هذا التصور من رغبة جامحة في مجانية حقائق الفطرة، التي تصطدم اصطداماً عنيفاً بذلك التصور.
ومن ثم اضطرت الماركسية-عند التطبيق العملي- ان تتخلى عن أهم مقدساتها الماركسية! وعللت هذا التخلي الذي يكاد يكون كاملاً، بان الماركسية مذهب متطور، على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات) احتشاد النظرية المارانا كلب يجب ان انحظرية!
لقد تحطمت النظرية (العلمية) المارانا كلب يجب ان انحظرية تحت مطارق الفطرة في معظم أجزائها الرئيسية. ولم يبق إلا (الدولة) وإلا الأنظمة الديكتاتورية البوليسية، التي تعرفها روسيا جيداً في أيام القيصرية!
ووفق النظرية (المحطمة) فان (الدولة) كان ينبغي أن تكون الآن-وبعد حوالي نصف قرن- في طريقها إلى الذبول والزوال.. ولكن الذي يعلمه كل أحد أن الدولة هناك، تتضخم يوماً بعد يوم، وتبتلع كل شيء – بما في ذلك الشعب نفسه!
ولعله من المفارقات الطريفة أن المارانا كلب يجب ان انحظرية التي تفترض إمكان قيام المجتمع بدون حكومة في نهاية المطاف، هي التي تنتهي فيها الحكومة إلى أن تصبح هي الشيء الوحيد الذي له وجود! حيث لا وجود (للفرد) ولا وجود (للشعب) ولا وجود (لفطرة الإنسان) في ظل ذلك النظام!
إن المارانا كلب يجب ان انحظرية-كمذهب- لا تزيد على أن تكون جهالة (علمية) منقطعة النظير. أما النظام البوليسي الذي قام باسمها ، فهو نظام تعرفه روسيا من قبل أيام القيصرية. وهو نظام يمكن أن تطيقه الشعوب المتخلفة-بعض الوقت- ولكن الآدميين الذين يستشعرون وجودهم (الإنساني) لا يصبرون عليه طويلاً.. وحتى هذه الشعوب التي ترزح تحت وطأته فان فطرتها تقاومه مقاومة عنيفة-على الرغم من طول خضوعها قبله للقيصرية الطاغية- وهو لا يعيش إلا في ظل الإرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحانا عضو استحق الطرد الشيوعي) القليل العدد، على مرافق البلاد؛ وعلى الرغم من احتكار كل موارد الارتزاق والمعاش في يد الدولة، الأمر الذي يذل لها الرقاب! وعلى الرغم من بلشفة الصغار عن طريق المنظمات الخاصة للأطفال وللشباب. وعلى الرغم من سيطرة الدولة على كل أجهزة التوجيه والإعلام. وعلى الرغم من أن المدرسين جميعاً يتبعون(الأيديولوجية الشيوعية). وعلى الرغم من حركات التطهير لكل من يشك في عدم ولائه للنظام الشيوعي.. فلابد ان يكون هذا النظام من الكراهية والاصطدام بالفطرة إلى الحد الذي لا تجدي كل هذه العوامل الساحقة في جعله آمناً على نفسه من انتقاض الجماهير-او بتعبير آخر من انتقاض الفطرة، التي يستحيل أن تصبر طويلاً على مثل هذا النظام المتعسف- وآية الفشل لأي نظام لا يقوم إلا في حراسة الإرهاب.
* * *
من ثم تبدد نبوءة (برتراند رسل) قريبة الجذور سطحية المقدمات مادية الأسباب. لا تخرج عن نطاق التفكير المادي المحدود. سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!
إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير. أنها قضية الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة. قضية الأنظمة الاجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية، التي لم تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم تعط الإنسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة هذا الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة.
إنه (الفصام النكد) الذي تستوي في القيام على أساسه كل الأنظمة السائدة في عالم (الرجل الأبيض)؛ والذي يستوي فيه الروسي والأمريكي، والإنجليزي والفرنسي، والسويسري والسويدي.. وسائر من يتبعهم في الشرق وفي الغرب سواء.
انه ليس هنالك فارق حقيقي-من ناحية الأصل الوضعي لهذه الأنظمة كلها!- ولا عبرة بان تكون الكنائس مثلاً مفتوحة الأبواب في أمريكا الرأسمالية؛ او مغلقة الأبواب في روسيا الشيوعية؛ او مهملة لا لها ولا عليها-مع ضمان حرية الإلحاد- في السويد الاشتراكية!
لا عبرة بهذه الفوارق الشكلية ما دام أن النظم الاجتماعية، والمذاهب الفكرية في هذه البلاد كلها ليست منبثقة انبثاقاً من التصور الاعتقادي الإلهي، الذي يكفل-وحده- التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. هذه العناصر الأساسية التي تنبثق منها أسس النظام الاجتماعي، كما تنبثق منها مناهج الفكر الصحيحة، الموصولة بفطرة الإنسان الحقيقية، الملبية لحاجات الإنسان الحقيقية كذلك.
هذه هي القضية في جذورها العميقة الشاملة. لا كما يتصورها-داخل القضبان الفكرية!- (براتراند رسل) شأنه في التفكير من داخل القضبان شأن كل مفكري الغرب، أسارى بيئتهم وحضارتهم وتاريخهم التعيس مع كنيستهم الغاشمة، وفصامهم النكد الذي طبع حياتهم كلها خلال خمسة قرون مريرة!
* * *
ثم ماذا؟
ثم انه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً. وبأنظمتها جميعاً.. الخواء الذي تختنق فيه روح (الإنسان)، وتنهدر فيه قيمة (الإنسان)، وتنحدر فيه خصائص (الإنسان).. بينما تتكدس (الأشياء) وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
انه الخواء الذي يهدد الحياة الإنسانية ورقيها بالتوقف. بل يهددها بالنانا كلب يجب ان انحظرة والانحدار-على الرغم من ضخامة الإنتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي- ذلك أن (الإنسان) ذاته لم تراع فطرته، ولا احتياجاته الحقيقية عند إقامة النظام الحضاري الذي ساد!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وان الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز ان تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (الإنسان) ومقومات (الإنسان)!
إن الإنسان هو اكرم ما في هذه الأرض. انه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و(إنسانيته) هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا (الإنسان) ينحدر في صفاته (الإنسانية) وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، او عبداً لها، او تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع.
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة..
إذا رأيناه هارباً من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية ، والأنظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله ، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، او ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في (الوجودية) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة..
إذا رأيناه يئد نسله، او يبيع اولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة..
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فان جميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن (روح الإنسان) من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بان تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وان تستخدم (العقل) و(العلم) و(التجربة) استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
* * *
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، ام سويسرياً أم سويدياً.. انتهى لان ذلك (الفصام النكد) في التاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.. قد حدد بدوره نهاية دور الرجل الأبيض!
إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة (الإنسان)..
لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني.. وهذا التفسير الصحيح، وذلك التصور المطابق للحقيقة-كما هي في الواقع لاكما يراها الناس من خلال عدسات عقولهم القاصرة وشهواتهم وأهوائهم وانفعالاتهم المتغيرة- ضرورة من ضرورات (الحياة الإنسانية)..
وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض. بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب وفي الشرق جميعاً.
والإنسان هو الإنسان منذ نشأ. انه في حاجة إلى (عقيدة) تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..(عقيدة) ترسم له أهدافاً اكبر من ذاته، واعم من جيله، وابعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. ولكن هذه الجوعة وكل ما يتعلق بها لا تستغرق الكينونة الإنسانية. وإشباعها لا يسد سائر الجوعات (الإنسانية). وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الانا كلب يجب ان انحظراء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛ ومجال اكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه وشريعة مجتمعه على السواء..
وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض. وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة. واعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون.. إن الروسي هو الرجل الأبيض الوحيد الذي تسنح له الفرصة لنشر نفوذه في آسيا. والشعوب الآسيوية تمقت الاستعمار، وهم لا يعتقدون أن (للكريملين) غايات استعمارية.. لأنهم لم يجربوه.. بينما رزحوا أجيالاً طويلة تحت سلطان الرجل الغربي، واصبحوا يكرهون تلك التجربة. ولهذا لست اعتقد أن للدولة الغربية فرصة في آسيا. ولكني اعتقد أن الهند قد تعيش في توافق مع العالم الغربي. أما العالم العربي-وكذلك مصر والباانا كلب يجب ان انحظرتان- فستنحاز إلى المعسكر الشيوعي!.
أطلق (برتراند رسل) نبوءته هذه عام 1950. وربما يبدو أن الوقائع التي تلت ذلك-وبخاصة سقوط الصين في قبضة الشيوعية- تصدق أساس هذه النبوءة.. ولكننا نلاحظ أنها نظرة قريبة الجذور سطحية المقدمات، مادية الأسباب- وهو ما لا نستغربه من مفكر غربي أياً كانت قيمة تحرره العقلي الذي اشتهر عنه.. فهو أسير عقلية وبيئة ووراثات وحضارة معينة، لا تسمح له بأن يفكر وراءها؛ ولا ان يخرج من إسارها، ليرى الأمر كله جملة، ومن زاوية أخرى جديدة!
* * *
إن المسألة اعمق من هذا بكثير..
لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة القريبة، ولم يعد لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة (الإنسانية)..
لقد أصيبت بالعقم-او كادت- بعد ما ولدته في (الماجنا كارتا) الإنجليزية. ومبادئ الثورة الفرنسية. ومبادئ الحرية الفردية التي سادت في ما يسمونه (التجربة الأمريكية).
وكلها كانت قيماً محدودة تروج في فترة خاصة . وتواجه حالات محدودة وأوضاعاً خاصة. ولم تكن رصيداً لبني الإنسان يصلح للبقاء مدة أطول من الفترة التي عاشتها تلك المبادئ الموقوتة!
وكلها كانت مبتوتة عن الأصل الكبير الذي لا تقوم الأنظمة الاجتماعية، ولا تعيش المبادئ والقيم، إلا إذا انبثقت منه، وقامت عليه. الأصل الاعتقادي المرتبط بالله، والتفسير الكلي للوجود، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني.. ومن ثم كانت قيماً محدودة موقوتة لأنها في الأصل قيم مبتوتة!.. (نبات شيطاني) لا جذور له في أعماق الفطرة البشرية، لأنه ليس آتياً من المصدر الذي جاءت منه الفطرة البشرية.
ومن أجل أنها لم تنبثق من ذلك الأصل؛ ولم تجئ من هذا المصدر، فإنها قامت على أساس مناقض لفطرة الحياة، ولفطرة الإنسان؛ ولم تراع في الأسس التي قامت عليها، ولا في الوسائل التي اتخذتها، ولا في الطريق التي سارت فيه.. لم تراع في هذا كله احتياجات (الإنسان) الحقيقية، المنبثقة من طبيعة تكوينه، واصل خلقته وحقيقة فطرته وأهملت إهمالاً شنيعاً أهم مقوماته-التي بها صار الإنسان إنساناً- ولم تهملها فحسب، بل طاردتها في جفوة وعنف..
وكان ذلك كله بسبب تلك الملابسات النكدة، التي أثمرت ذلك (الفصام النكد). فقامت تلك الحضارة-من ثم- على أسس معادية للدين.. أسس فكرية وشعورية وواقعية.. وسارت كذلك-من ثم- في طريق معارض للحقيقة الإنسانية، وللحاجات الحقيقية لبني الإنسان وللقيم الصحيحة التي ينبغي أن تطبع الحياة الإنسانية وتميزها.
ومن ثم اخذ (الإنسان) يشقى شقاءً مريراً بالحضارة، التي قامت أصلاً-او المفروض أنها قامت أصلاً- لخدمته وترقيته وإسعاده.. وحين تتناقض(الحضارة) مع (الإنسان) فالنتيجة الحتمية بعد فترة-تطول او تقصر- من صراع الإنسان مع الحضارة، ومن الآلام والتضحيات، والخسائر والمرارات، ان ينتصر الإنسان، لأنه هو الأصل. ولأن فطرته اعمق وأبقى من أنماط الحضارة الطارئة عليها..
* * *
وعندما يكون هذا هو مقياس البقاء، فإن الروسي يقف مع الإنجليزي والأمريكي والفرنسي والسويسري والسويدي.. وسائر البيض.. على قدم سواء!
لا بل إن الروسي ليبدو متخلفاً بنظامه المتعسف، الذي لا يملك البقاء بغير الوسائل البوليسية البشعة، وبغير(حمامات الدم) و( حركات التطهير) الدورية، ومعسكرات الاعتقال، ومعسكرات الموت... لشدة مصادمته للفطرة الإنسانية في الكليات والجزئيات!
إن المارانا كلب يجب ان انحظرية-من الوجهة النظرية- تقوم على جهالة عميقة بالنفس البشرية وطبيعتها وتاريخها- فضلاً على الجهالة العميقة بالحقيقة الكونية، وتفسير الكون والحياة- فهي إذ تصور جميع الدوافع الإنسانية قائمة على جوعة المعدة والصراع على لقمة الخبز، وتصور جميع الحركات التاريخية منبثقة من تغير أدوات الإنتاج.. تلغي أهم مقومات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ البهيمة! وتلغي أهم وظائف الإنسان. وهي أن يكون العامل الإيجابي الأول في هذه الأرض وفي أطوار التاريخ.. ثم هي-فجأة- تتصور المستقبل خلواً من كل وراثات البشرية؛ وتفترض أن الناس سيتحولون ملائكة خيرين، ينتج كل منهم أقصى ما في طوقه، ولا يأخذ إلا قدر ما يكفيه.. وكل هذا بدون رقابة، وبدون حكومة، وبدون عقيدة سماوية تطمعه في جنة او تخيفه من نار. وبدون أي سبب معقول.. اللهم إلا ذلك الانقلاب الخرافي العجيب، الذي يتم في طبائع البشر، بمجرد تحطيم العناصر البرجوازية، وتسليم الأمر للبروليتريا.
وإذا كان هذا التصور (العلمي) عن المستقبل يبدو (خرافة) فان ذلك التصور عن التاريخ لا يقل عنه إمعاناً في الجهالة (العلمية) بحقيقة النفس البشرية، وطبيعتها، وتاريخها على السواء.
حين يكون هذا الجهل العميق، وهذه الخرافة الطاغية، هما أساس التصور المارانا كلب يجب ان انحظري، فإننا لا ننتظر أبداً أن يقوم على أساسه واقع عملي في الحياة التي يزاولها البشر، إلا أن يكون فيه من الاعتساف قدر ما في هذا التصور من رغبة جامحة في مجانية حقائق الفطرة، التي تصطدم اصطداماً عنيفاً بذلك التصور.
ومن ثم اضطرت الماركسية-عند التطبيق العملي- ان تتخلى عن أهم مقدساتها الماركسية! وعللت هذا التخلي الذي يكاد يكون كاملاً، بان الماركسية مذهب متطور، على حين أن ليس هنالك مذهب يحتشد (بالحتميات) احتشاد النظرية المارانا كلب يجب ان انحظرية!
لقد تحطمت النظرية (العلمية) المارانا كلب يجب ان انحظرية تحت مطارق الفطرة في معظم أجزائها الرئيسية. ولم يبق إلا (الدولة) وإلا الأنظمة الديكتاتورية البوليسية، التي تعرفها روسيا جيداً في أيام القيصرية!
ووفق النظرية (المحطمة) فان (الدولة) كان ينبغي أن تكون الآن-وبعد حوالي نصف قرن- في طريقها إلى الذبول والزوال.. ولكن الذي يعلمه كل أحد أن الدولة هناك، تتضخم يوماً بعد يوم، وتبتلع كل شيء – بما في ذلك الشعب نفسه!
ولعله من المفارقات الطريفة أن المارانا كلب يجب ان انحظرية التي تفترض إمكان قيام المجتمع بدون حكومة في نهاية المطاف، هي التي تنتهي فيها الحكومة إلى أن تصبح هي الشيء الوحيد الذي له وجود! حيث لا وجود (للفرد) ولا وجود (للشعب) ولا وجود (لفطرة الإنسان) في ظل ذلك النظام!
إن المارانا كلب يجب ان انحظرية-كمذهب- لا تزيد على أن تكون جهالة (علمية) منقطعة النظير. أما النظام البوليسي الذي قام باسمها ، فهو نظام تعرفه روسيا من قبل أيام القيصرية. وهو نظام يمكن أن تطيقه الشعوب المتخلفة-بعض الوقت- ولكن الآدميين الذين يستشعرون وجودهم (الإنساني) لا يصبرون عليه طويلاً.. وحتى هذه الشعوب التي ترزح تحت وطأته فان فطرتها تقاومه مقاومة عنيفة-على الرغم من طول خضوعها قبله للقيصرية الطاغية- وهو لا يعيش إلا في ظل الإرهاب البوليسي؛ على الرغم من سيطرة (الحانا عضو استحق الطرد الشيوعي) القليل العدد، على مرافق البلاد؛ وعلى الرغم من احتكار كل موارد الارتزاق والمعاش في يد الدولة، الأمر الذي يذل لها الرقاب! وعلى الرغم من بلشفة الصغار عن طريق المنظمات الخاصة للأطفال وللشباب. وعلى الرغم من سيطرة الدولة على كل أجهزة التوجيه والإعلام. وعلى الرغم من أن المدرسين جميعاً يتبعون(الأيديولوجية الشيوعية). وعلى الرغم من حركات التطهير لكل من يشك في عدم ولائه للنظام الشيوعي.. فلابد ان يكون هذا النظام من الكراهية والاصطدام بالفطرة إلى الحد الذي لا تجدي كل هذه العوامل الساحقة في جعله آمناً على نفسه من انتقاض الجماهير-او بتعبير آخر من انتقاض الفطرة، التي يستحيل أن تصبر طويلاً على مثل هذا النظام المتعسف- وآية الفشل لأي نظام لا يقوم إلا في حراسة الإرهاب.
* * *
من ثم تبدد نبوءة (برتراند رسل) قريبة الجذور سطحية المقدمات مادية الأسباب. لا تخرج عن نطاق التفكير المادي المحدود. سجين هذه الحضارة المادية على كل حال!
إن القضية اعمق من هذا واشمل بكثير. أنها قضية الحضارة المنبتة عن الله، وعن منهجه للحياة. قضية الأنظمة الاجتماعية والمناهج الفكرية والمذاهب الوضعية، التي لم تنبثق من اصلها الواحد الصحيح؛ ومن ثم لم تعط الإنسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة هذا الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة.
إنه (الفصام النكد) الذي تستوي في القيام على أساسه كل الأنظمة السائدة في عالم (الرجل الأبيض)؛ والذي يستوي فيه الروسي والأمريكي، والإنجليزي والفرنسي، والسويسري والسويدي.. وسائر من يتبعهم في الشرق وفي الغرب سواء.
انه ليس هنالك فارق حقيقي-من ناحية الأصل الوضعي لهذه الأنظمة كلها!- ولا عبرة بان تكون الكنائس مثلاً مفتوحة الأبواب في أمريكا الرأسمالية؛ او مغلقة الأبواب في روسيا الشيوعية؛ او مهملة لا لها ولا عليها-مع ضمان حرية الإلحاد- في السويد الاشتراكية!
لا عبرة بهذه الفوارق الشكلية ما دام أن النظم الاجتماعية، والمذاهب الفكرية في هذه البلاد كلها ليست منبثقة انبثاقاً من التصور الاعتقادي الإلهي، الذي يكفل-وحده- التفسير الصحيح لحقيقة الوجود وعلاقته بخالقه؛ ولحقيقة الإنسان ومركزه في هذا الوجود؛ ولغاية وجوده الإنساني.. هذه العناصر الأساسية التي تنبثق منها أسس النظام الاجتماعي، كما تنبثق منها مناهج الفكر الصحيحة، الموصولة بفطرة الإنسان الحقيقية، الملبية لحاجات الإنسان الحقيقية كذلك.
هذه هي القضية في جذورها العميقة الشاملة. لا كما يتصورها-داخل القضبان الفكرية!- (براتراند رسل) شأنه في التفكير من داخل القضبان شأن كل مفكري الغرب، أسارى بيئتهم وحضارتهم وتاريخهم التعيس مع كنيستهم الغاشمة، وفصامهم النكد الذي طبع حياتهم كلها خلال خمسة قرون مريرة!
* * *
ثم ماذا؟
ثم انه الخواء ينخر في روح الحضارة الغربية، بمذاهبها جميعاً. وبأنظمتها جميعاً.. الخواء الذي تختنق فيه روح (الإنسان)، وتنهدر فيه قيمة (الإنسان)، وتنحدر فيه خصائص (الإنسان).. بينما تتكدس (الأشياء) وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان!
انه الخواء الذي يهدد الحياة الإنسانية ورقيها بالتوقف. بل يهددها بالنانا كلب يجب ان انحظرة والانحدار-على الرغم من ضخامة الإنتاج المادي والفتوح العلمية والتقدم الصناعي- ذلك أن (الإنسان) ذاته لم تراع فطرته، ولا احتياجاته الحقيقية عند إقامة النظام الحضاري الذي ساد!
إن بريق الحضارة المادية لا يجوز أن يغشي أبصارنا عن حقيقة الشقاء الذي باتت تعانيه البشرية في ظل هذه الحضارة. وان الصواريخ المطلقة، والأقمار الصاعدة، لا يجوز ان تلهينا عن الدرك الذي ينحدر إليه (الإنسان) ومقومات (الإنسان)!
إن الإنسان هو اكرم ما في هذه الأرض. انه هو الكائن الأساسي فيها، والمستخلف في مقدراتها. وكل شيء فيها في خدمته-أو ينبغي أن يكون كذلك-و(إنسانيته) هي المقوم الأعلى الذي يقاس به مدى صعوده او هبوطه. وسعادة روحه هي مقياس ما في الحضارة التي يعيش فيها من ملاءمة لطبيعته أو مصادمة..
فإذا رأينا (الإنسان) ينحدر في صفاته (الإنسانية) وفي تصوره للقيم الإنسانية..
إذا رأيناه وقوداً للآلة، او عبداً لها، او تابعاً ذليلاً من توابعها..
إذا رأيناه- تبعاً لهذا- ينحط في تصوره وذكائه وأخلاقه..
إذا رأيناه يهبط في علاقاته الجنسية إلى أدنأ من درك البهيمة..
إذا رأينا وظائفه الأساسية تعطل وتذوي وتتراجع.
إذا رأيناه يشقى ويقلق ويتحير، ويعاني من القلق والحيرة ما لم يعانيه قط في تاريخه من الشقاء والتعاسة والأمراض العصبية والنفسية والشذوذ والعته والجنون والجريمة..
إذا رأيناه هارباً من نفسه ومن المخاوف والقلاقل التي تلفه بها الحضارة المادية ، والأنظمة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والفكرية.
إذا رأيناه هائما على وجهه يقتل سآمته وملله ، بما يقتل به روحه وجسمه وأعصابه، من المكيفات والخمور، او ما يشبه المكيفات والخمور من الأفكار السود، ومذاهب اليأس الكابي والقنوط الملبس والضياع الأليم.. كما في (الوجودية) وغيرها من مذاهب الفكر التعيسة..
إذا رأيناه يئد نسله، او يبيع اولاده، ليشتري بهم ثلاجات وغسالات كهربائية-كما جاءتنا الأنباء عن أوروبا الضائعة..
إذا رأيناه في مثل هذه الحال النكدة.. فان جميع ما يصل إليه (العلم) في معزل عن (روح الإنسان) من تيسيرات للحياة المادية، ومن رفاهيات حضارية.. لا يغير شيئاً من حقيقة الانحدار الذي تهوي إليه البشرية؛ ومن حقيقة الشقاء الذي تعانيه؛ ومن حقيقة التعاسة التي تزاولها.. ثم.. من حقيقة فشل هذه الحضارة وقرب نهايتها.. ومن ثم حقيقة الحاجة الماسة إلي نظام آخر أصيل، بريء-في أساسه- من العيوب الأساسية التي أفسدت حياة البشر؛ وضيعت عليهم ثمار العلم والمعرفة والتقدم الحضاري.. نظام يسمح للإنسانية بان تحقق غاية وجودها الإنساني-كما أرادها خالقها العظيم- وان تستخدم (العقل) و(العلم) و(التجربة) استخداماً آخر، يتناسق مع احتياجاتها الحقيقية؛ ومع مقتضيات فطرتها الأصيلة.
* * *
لقد انتهى دور الرجل الأبيض.. انتهى دوره سواء أكان روسياً أم أمريكياً، إنجليزياً أم فرنسوياً، ام سويسرياً أم سويدياً.. انتهى لان ذلك (الفصام النكد) في التاريخ الأوروبي، وفي جميع المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم في الغرب.. قد حدد بدوره نهاية دور الرجل الأبيض!
إنه لابد من قاعدة من التصور الاعتقادي لكافة المذاهب والمناهج والنظم والأوضاع التي تقوم عليها حياة (الإنسان)..
لابد من تفسير صحيح للوجود، ولمركز الإنسان فيه، ولغاية وجوده الإنساني.. وهذا التفسير الصحيح، وذلك التصور المطابق للحقيقة-كما هي في الواقع لاكما يراها الناس من خلال عدسات عقولهم القاصرة وشهواتهم وأهوائهم وانفعالاتهم المتغيرة- ضرورة من ضرورات (الحياة الإنسانية)..
وهذا ما أغفلته حضارة الرجل الأبيض. بل حاربته حرباً شعواء، يستوي في هذا جميع الأنظمة السائدة في الغرب وفي الشرق جميعاً.
والإنسان هو الإنسان منذ نشأ. انه في حاجة إلى (عقيدة) تعمر قلبه؛ وتنبثق منها تصوراته؛ وتقدم له التفسير الشامل لحياته وللكون من حوله؛ ولعلاقته هو والكون بالخالق الأعلى..(عقيدة) ترسم له أهدافاً اكبر من ذاته، واعم من جيله، وابعد من حاضره، وأرفع من واقعه؛ وتربطه بذات علوية، لها عليه رقابة وسيطرة؛ يحبها ويخشاها؛ ويتقي غضبها ويطلب رضاها؛ وينتظر عونها على الخير؛ ويستحي من مواجهتها بالشر؛ ويرجو جزاءها العادل الكامل، الذي يعوض عليه ما يفوته في صراعه للشر في هذه الحياة الدنيا؛ ويربط حياته كلها بها؛ ويتلقى عنها نظام حياته، ومناهج فكره وسلوكه؛ كما يتلقى عنها شعائر عبادته سواء بسواء.. فتستقيم حياته كلها حزمة واحدة، لا فصام فيها ولا صدام..
ولقد يشغل الإنسان بعض الوقت بجوعة الجسد، وما يتعلق بها من الإنتاج بشتى وسائله وصنوفه، ومن المتاع الحسي بشتى ألوانه ومذاقاته.. ولكن هذه الجوعة وكل ما يتعلق بها لا تستغرق الكينونة الإنسانية. وإشباعها لا يسد سائر الجوعات (الإنسانية). وما أن تهدأ هذه الجوعة حتى تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى. جوعة لا يسدها الطعام، ولا يرويها الشراب، ولا يكفيها الانا كلب يجب ان انحظراء، ولا تسكنها كل ضروب المتاع.. إنها جوعة من نوع آخر. جوعة إلى الإيمان بقوة اكبر من البشر؛ وعالم اكبر من المحسوس؛ ومجال اكبر من الحياة الدنيا.. وجوعة إلى الوئام بين ضمير الإنسان وواقعه، بين الشريعة التي تحكم ضميره والشريعة التي تحكم حياته. بين منهج حركته الذاتية ومنهج الحركة الكونية من حوله. جوعة إلى (إله) واحد؛ يتلقى منه شريعة قلبه وشريعة مجتمعه على السواء..
وكل نظام للحياة لا يحقق السعادة للكائن البشري إلا إذا تضمن كفاية هذه الجوعات المتعددة في كينونته الواحدة.. وهذه السمة هي التي خلت منها حضارة الرجل الأبيض!
ولهذا السبب-من وراء كل سبب- انتهى دور الرجل الأبيض..
......
المصدر: فصل من كتاب (المستقبل لهذا الدين) لسيد قطب